خواطر حول كتاب أحجية العزلة

 كتاب" أحجية العزلة "

 للكاتبة : أثير النشمي 

في البداية و قبل أن أفتح الكتاب ، كنت أجهز نفسي لأقرأ رواية أنثوية بامتياز 

 بطلتها إمرأة ..

ربما توقعت ذلك ؛ بسبب قرائتي مسبقا لرواية أحببتك أكثر مما ينبغي ، و بعضا من رواية فلتغفري  لنفس الكاتبة .

أمسكت بالكتاب و بدأت بالقراءة فإذا بي و منذ البداية أكتشف ان الرواية مكتوبة بلسان حال شاب ..

طويت الكتاب و تركته ساكنا مدة طويلة على الحال الذي هو عليه ، أملا في أن أقرأه في وقت ما بعد أن أتقبل الطابع الذكوري له ! 

ثم اصبحت اقترب منه رويدا رويدا ، أقرأه بتأن 

حتى تعودت على سرد "ثنيان" بطل الرواية لمشاعره و حواره الداخلي ، و صراعه اليومي مع اصابته بطيف من أطياف التوحد ( أسبرجر ) الذي يعيش معه و فيه كل يوم .

الرواية هادئة ، و النقلات بين الأحداث لم تكن سريعة ..

هي تشبه قراءة مذكرات شخص ما كتبها ليوثق وجوده و كيونته لنفسه أولا ..

ثنيان شاب عشريني ، متخرج من الجامعة من قسم البرمجة ، و كاتب مميز ..

وجد ثنيان في الكتابة متنفسا ..

الكتابة أخرجته قليلا من وحدته ، بل وجعلته يشعر أنه ليس مختلفا ، فها هو أخيرا يمارس شيئا يشبه فيه الأشخاص الطبيعين ..

هذا كان بعض ما وصف به ثنيان شعوره  نحو الكتابة ..

علاقة ثنيان بوالدته ليست علاقة اعتياديه ، كانت هي كل عالمه ، ترجمان عقله ، عيناه اللتين يبصر بهما العالم حوله ، و أذنيه اللتين يسمع بهما الاجابات على اسئلته الحائرة ..

ترى لو كانت أم ثنيان  إمرأة أخرى مختلفة عنها  ، هل كان ليكون نفس الإنسان ؟ 

لو كانت  مثلا غير مثقفة ..

عصبية ..

قليلة الصبر ..

 يائسة ..

بائسة تلوم حظها التعس ..

 و تلوك عبارات النحس ..

 هل كان ليصبح ثنيان كاتبا ناجحا ، و شخصا مؤثرا ؟ 

مع أو بدون كونه (أسبي) ! 

أمل ، والدة ثنيان و التي لم نكتشف اسمها إلا في الفصول الأخيرة من الرواية إنسانة تؤمن بالإختلاف ، و تؤمن أن قوة الإنسان قد تكمن في هذا الاختلاف ، و أننا لا يمكن أن نكون جميعا متشابهين .

قوية ، و لكنها ناعمة  ، رحيمة ، متفائلة ، مبتسمة رغم كل شيء ، لها قدرة عجيبة على الاحتواء ، و الحب ، و التفهم ، و التحاور ، و  الصبر 

هي البطلة الحقيقة في الرواية .

المرأة التي كنت أبحث عنها ..

 الأنثى التي أخفتها الكاتبة بمهارة بين ثنايا ثنيان ، و في كل تفاصيله ..

كانت هناك امرأة أخرى ..

رجنة ..

المرأة الثانية في حياة ثنيان 

امرأة ذات تجارب في الحب ، و الحياة ..

جميلة ، مغرية ، جريئة ، واثقة ، و لعوب ..

لاحقت ثنيان حتى أحبها ..

أحبها ثنيان حب رجل توحدي لا يجيد فن الإلتواء ، و  لا يستطيع الكر ، و الفر ..

لا يريد أن يكون صياد ، و لا يريد أن يدخل في متاهات أكثر  ..

لا يستطيع ثنيان مجاراة امرأة كرجنة ..

هي التي تكبره بست سنوات ، و تتفوق عليه ذهنيا في هذه اللعبة ..

كانت هي من تقود  زمام العلاقة بكل سهولة ..

سحبت ثنيان نحوها ، ثم تركته عندما انتهت منه ..

هكذا بكل بساطة 

كش ملك ..

و انتقلت لما بعده دون تفكير !! 

ثنيان رجل لا يمكنه أن يخون ، لإنه أصلا لا يعرف كيف يخون ..

أضاعت رجنة من بين يديها فرصة ذهبية لعشق رجل بقلب طفل ..

رجل لن يخذلها مهما كان الثمن ..

هو كان بالنسبة لها مرحلة قصيرة ..

فترة ..تجربة ..تسلية ربما ؟ 

لا أعرف ، لإننا لم نسمع منها أسباب انفصالها عن ثنيان ..

ربما لم تستطع ان تتواصل معه كما يجب ، ربما لم يكن هو الرجل الذي تحتاجه في حياتها ..

هي لن تستطيع ان تمنحه ما منحته إياه أمل ...

بالنهاية تحتاج المرأة لرجل يفهمها ، يدعمها ، يسندها ، يتواصل معها ، و يحميها ، و يبدد مخاوفها ..

احتياجات المرأة النفسية كثيرة لدرجة قد تزعج و تشوش حتى أكثر الرجال حكمة ، و عقلا ، و ارتفاع سقف توقعاتها من رجل حياتها هو السبب دائما في احباطها ، فهي تتوقع أن يفهمها آدم قبل أن تتكلم !! 

المرأة ناجحة في هذا الجانب أكثر ..

احتوائنا لاحتياجات من حولنا أشمل ، و أكبر ..

حواء الحقيقية تفهم  و تحتوي من حولها ، و خاصة من تحبهم ، و تهتم لأمرهم من مجرد نظرة واحدة ..

و لكن لماذا اقدمت رجنة على علاقة كهذه ، و هي تعرف تماما أن ثنيان أسبي ، و أن علاقتها به ستكون مليئة بالصعوبات ..!! 

اخطئت رجنة في انسحابها من حياة ثنيان بتلك الطريقة غير مبالية للدمار الشامل الذي تركته خلفها ..

رجل مثل ثنيان لن يستطيع أن يتجاوز ألم الخذلان مهما فعل ، و لن يستوعب تلاعب الآخرين ، و لن يكلف نفسه عبء إيجاد الأعذار ، بل و سيلوم نفسه ، و يعتبر انه المسئول عن فشل تلك العلاقة و عدم استمرارها ، كما يلوم نفسه على انه توحدي ، و انه جعل حياة أسرته صعبه !! 

صعب هو أن تشعر بالذنب طوال الوقت و تجلد نفسك حتى على الأشياء التي ليس لك بها يد ..

عالمك صغير جدا يا ثنيان ..

و لكنه بالنسبة لك هوة سحيقة بلا قرار ! 

عالم متكون من أم و أب و أخوين يصغارنك ..تحاول أن تنتمي إليهم بيد أنك لا تعرف لماذا يجب أن تنتمي لأحد ..

المدرسة ، الجامعة ، العمل كلها بالنسبة لك تحد خارق ، قيد ثقيل ، سباحة ضد التيار ..

تعرضت للتنمر ، و المضايقة بسبب اختلافك ، و بسبب أننا لم نتعود على معاملة الآخر الذي لا يشبهنا ، فكان من الأسهل أن نشير إليه ، و نضحك منه ، بدلا من أن نفهمه ، أو نقترب منه ، أو حتى نتركه و شأنه ..

أن تكون في مجموعة ، أن تتواصل  ، أو تتقرب من الأشخاص حولك ، أحجية صعبة الحل يا ثنيان  ..

الأشياء التي نشعر بها نحن بشكل طبيعي ، تعتبرها أنت ثوبا ضيقا يخنقك ..

تود لو أنك تستطيع أن تنعم برفاهية أن تكون حرا ..

أن تكون أنت ..

و لكن يا ثنيان ، لو كانت أمل قد استسلمت و سمحت لك أن تمسك بزمام حصانك وحدك لكنت قد شردت بعيدا و ما وصلت لما وصلت إليه . 

أمل فتحت لك باب الحياة ، و رسمت لك الطريق بدمها ، و دموعها ..

الشيء الوحيد الذي لم تستطع أن تعلمه لك ، هو كيف تعيش بعيدا عنها ..

في خلال قرائتي للرواية كنت أتخيل  ثنيان مثل د.علي وفاء من مسلسل الطبيب المعجزة ، و الذي قام بدوره ببراعة الفنان التركي الشاب ( تونار أولماز )

لكن الكاتبة اشارت مرة واحدة لوصف مختصر لملامح ثنيان في نهايات الرواية تاركة المجال لخيالنا بدون حدود ..

بداية النهاية ..

إنهيار أمل ..

الحائط الذي طالما استند عليه ثنيان و اخوته صدع ..

كانت الضربة قوية ..و الشق يتسع بسرعة ..

تتهاوى أمل ، و يفقد ثنيان توازنه.  

لم أستطع هنا وضع الكتاب من يدي ، و لا التحكم في دموعي المتساقطة كالمطر ..

كان فصلا كئيبا ، و حزينا جدا ..

 

بل يكاد يكون  هو أحد أكبر مخاوف الحياة ، إن لم يكن اكبرها فعلا ..

لا أريد أن أكتب أي تفاصيل ، فلعل غيري يود قراءة الكتاب ..

و سأكتفي بالسؤال : 

ترى هل ماتت أمل ، أم أنها استلمت ؟ 

هل كانت شكوك ثنيان التي عذبته حقيقية ؟ 

و هل كان ذلك الحلم الذي عاشه في ٱخر فصل ، هو آخر فصل في حياته فعلا  ، أم كان مجرد حلم يائس ، و انعكاس لمشاعره ، و امنياته ؟ 

تركت أثير لنا النهاية ضبابية لكي تترك لنا فسحة الخيال ، و حرية الاختيار ..

انتهت رواية أحجية العزلة ..

و لكن الأحجية لم تفك رموزها بعد .

و لا تزال العزلة أحجية ..